
مقدمة
المنافسة جزء أصيل من أي اقتصاد حرّ؛ فهي التي تدفع الشركات لتطوير منتجاتها، وخفض أسعارها، وتحسين مستوى الخدمات بما يلبي طموحات المستهلكين. ومن دون المنافسة، يصبح السوق محتكرًا ويفتقد للتنوع والجودة. لكن، ليست كل منافسة صحية أو عادلة، فهناك ممارسات تتجاوز حدود الأخلاق والأعراف التجارية، وتتحول إلى ما يسمى المنافسة غير المشروعة.
في المملكة العربية السعودية، التي تعيش مرحلة تحوّل اقتصادي هائل ضمن رؤية 2030، تتضاعف أهمية مراقبة وضبط هذه الظاهرة. فالاقتصاد السعودي يسعى ليكون مركزًا عالميًا للاستثمار والتجارة، ومن غير المقبول أن تعرقل المنافسة غير النزيهة هذا التوجه. ولهذا نجد أن القوانين السعودية لم تكتفِ بتجريم هذه الممارسات، بل وضعت لها عقوبات رادعة، وأوجدت هيئات متخصصة للرقابة والتقاضي.
من هنا تأتي أهمية فهم أبعاد المنافسة غير المشروعة، ليس فقط من منظور قانوني، بل أيضًا من زاوية اقتصادية واجتماعية. فما الذي يجعلها خطيرة؟ وكيف تؤثر على بيئة الاستثمار؟ وما الذي يمكن فعله للحد منها؟
أولاً: تعريف المنافسة غير المشروعة وأبرز صورها
يقصد بالمنافسة غير المشروعة كل ممارسة تهدف إلى الحصول على ميزة تجارية أو إقصاء المنافسين عبر وسائل غير قانونية أو منافية للأعراف التجارية. فهي ليست مجرد تصرف فردي بسيط، بل قد تكون استراتيجية ممنهجة تؤدي إلى إضعاف شركات بأكملها.
أبرز صور المنافسة غير المشروعة:
-
الإعلانات المضللة والمبالغ فيها
-
تقوم بعض الشركات بإطلاق حملات دعائية تزعم أن منتجاتها تحتوي على فوائد طبية أو ميزات غير موجودة فعليًا.
-
مثال: في 2021، رُفعت قضية ضد شركة أغذية سعودية بعد أن زعمت أن منتجاتها “خالية من الدهون”، بينما أثبتت الفحوص وجود نسب عالية من الزيوت المهدرجة.
-
-
تقليد العلامات التجارية والشعارات
-
عندما تستخدم شركة شعارًا أو اسمًا قريبًا من منافس معروف، فإن المستهلك يقع في حيرة ويُخدع.
-
بحسب بيانات وزارة التجارة، فإن أكثر من 40% من الدعاوى التجارية في 2022 تتعلق بانتهاكات للعلامات التجارية.
-
-
الإغراق السعري
-
بعض الشركات، خاصة الأجنبية، تلجأ إلى بيع منتجات بأقل من تكلفتها لفترة زمنية محددة حتى تخرج الشركات المحلية من السوق، ثم ترفع الأسعار بعد ذلك.
-
هذا النوع من الممارسات يهدد استدامة المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
-
-
التشهير بالمنافسين
-
بعض التجار يلجأون إلى نشر شائعات أو تقارير مغلوطة حول منتجات المنافسين لتشويه سمعتهم.
-
على سبيل المثال: انتشرت عام 2019 شائعة حول إحدى شركات الألبان المحلية بأنها تستخدم مواد محظورة، وتبين لاحقًا أن مصدرها منافس في السوق.
-
-
التلاعب بالبيانات وإخفاء العيوب
-
بعض الشركات قد تُخفي عيوب المنتج أو تزور بيانات الجودة مثل تاريخ الصلاحية أو بلد المنشأ.
-
هذه الممارسات مجتمعة لا تؤثر فقط على المنافسين، بل تهدد ثقة المستهلكين في السوق ككل.

ثانياً: الإطار القانوني السعودي في مكافحة المنافسة غير المشروعة
وضعت المملكة أنظمة متكاملة للتعامل مع هذه الظاهرة، تتوزع بين عدة تشريعات وجهات رقابية.
1. نظام المنافسة
-
يهدف إلى منع الاحتكار وإتاحة فرص متكافئة للجميع.
-
يمنع الاتفاقات السرية لتحديد الأسعار أو تقسيم الأسواق.
-
العقوبات قد تصل إلى 10% من قيمة المبيعات السنوية للشركة المخالفة.
-
مثال عملي: في 2022، أصدرت الهيئة العامة للمنافسة غرامة بملايين الريالات على مجموعة شركات اتفقت سرًا على رفع أسعار مواد البناء.
2. نظام مكافحة الغش التجاري
-
يركز على حماية المستهلك من التضليل والخداع.
-
العقوبات تتراوح من غرامة تصل إلى مليون ريال إلى السجن ثلاث سنوات.
-
في العام نفسه، تم ضبط أكثر من 8 آلاف مخالفة غش تجاري في جولات رقابية شملت مختلف مناطق المملكة.
3. نظام العلامات التجارية
-
يمنح صاحب العلامة الحق الحصري في استخدامها.
-
مدة الحماية تصل إلى 10 سنوات قابلة للتجديد.
-
قضية مشهورة في جدة عام 2020 حُكم فيها لصالح شركة محلية ضد منافس استخدم شعارًا مشابهًا أدى إلى ارتباك العملاء.
4. نظام مكافحة التستر التجاري
-
يحارب الأنشطة التي يعمل فيها غير السعوديين بشكل غير نظامي باسم مواطنين.
-
هذه الممارسات تؤدي إلى احتكار قطاعات، وإقصاء المنافسين الشرعيين.

ثالثاً: الآثار الاقتصادية والاجتماعية للمنافسة غير المشروعة
1. تأثيرها على المستهلك
-
المستهلك هو الحلقة الأضعف، إذ يتعرض للخداع من خلال شراء منتجات مغشوشة أو مقلدة.
-
استطلاع هيئة المنافسة لعام 2023 أظهر أن 65% من المستهلكين واجهوا منتجات مضللة مرة واحدة على الأقل.
2. تأثيرها على الشركات الصغيرة والمتوسطة
-
تمثل هذه الشركات أكثر من 90% من إجمالي المنشآت في المملكة.
-
لكنها تعاني أكثر من غيرها إذا واجهت شركات كبرى تستخدم أساليب إغراق أو تقليد.
-
هذا يضعف مساهمتها في الناتج المحلي الذي تستهدف رؤية 2030 رفعه إلى 35%.
3. تأثيرها على الاستثمار الأجنبي
-
المستثمر يبحث عن سوق عادلة تحمي حقوقه.
-
انتشار المنافسة غير المشروعة يجعل السوق أقل جاذبية.
-
دراسة للبنك الدولي 2022 أكدت أن الشفافية القانونية من أهم معايير جذب الاستثمار الأجنبي المباشر.
4. تأثيرها على الابتكار
-
الشركات التي تُقلّد وتسرق الأفكار تقلل من حافز المنافسين على الابتكار.
-
وهذا يعيق خطط المملكة لتكون مركزًا إقليميًا للابتكار وريادة الأعمال.
رابعاً: دور الجهات الرقابية والقضائية
تعمل عدة جهات حكومية على مكافحة المنافسة غير المشروعة:
-
وزارة التجارة: عبر الحملات الرقابية المستمرة على الأسواق، وضبط المنتجات المغشوشة.
-
الهيئة العامة للمنافسة: ترصد الاتفاقات الاحتكارية وتفرض الغرامات.
-
المحاكم التجارية: تختص بالفصل في النزاعات المتعلقة بالعلامات والغش التجاري.
-
الهيئة السعودية للملكية الفكرية (SAIP): تسجل وتحمي العلامات والأفكار.
خامساً: الحلول العملية للحد من المنافسة غير المشروعة
-
رفع وعي التجار: عبر ورش عمل توضح خطورة الممارسات المخالفة.
-
تشجيع تسجيل العلامات التجارية: لتفادي التقليد وحماية حقوق الملكية.
-
الرقمنة: تطبيق أنظمة تتبع رقمية مثل QR Code للتحقق من أصل المنتجات.
-
تحفيز المستهلك على التبليغ: عبر تطبيق “بلاغ تجاري” الذي استقبل آلاف البلاغات في 2023.
-
تغليظ العقوبات: بحيث تكون رادعة، خاصة في حالات الإغراق المتعمد.
سادساً: أمثلة عالمية ودروس للسعودية
-
الاتحاد الأوروبي: فرض غرامات بمليارات اليوروهات على شركات اتفقت على رفع أسعار السيارات.
-
الولايات المتحدة: شركة تقنية عالمية غرّمتها لجنة التجارة الفيدرالية أكثر من 5 مليارات دولار بسبب ممارسات احتكارية.
-
دروس مستفادة: التشدد في العقوبات، والرقابة الإلكترونية، والشفافية في المحاكمات.
خاتمة
المنافسة غير المشروعة ليست مجرد خرق للقانون، بل تهديد مباشر للنمو الاقتصادي، وثقة المستهلك، واستدامة الاستثمار. في السعودية، حيث تتجه الأنظار العالمية إلى السوق كوجهة استثمارية رائدة، يصبح التصدي لهذه الظاهرة أولوية قصوى.
القوانين موجودة، والعقوبات رادعة، والجهات الرقابية نشطة، لكن يبقى الدور الأكبر على وعي الشركات والمستهلكين. فحين يرفض المستهلك شراء المقلّد، وحين تلتزم الشركات بالممارسات الشفافة، يصبح السوق أكثر عدلاً وتنافسية.
المملكة أمام فرصة تاريخية لترسيخ بيئة تجارية نزيهة، تُحارب فيها المنافسة غير المشروعة بكل قوة، لتظل المنافسة الحقيقية أداة للإبداع لا وسيلة للتضليل.